عشية الحرب الأهلية، كانت كل قطاعات الشعب اللبناني تتحرك لوضع النظام القائم موضع تساؤل ومقاومة الأزمة ومجابهة سياسات الاوليغارشية التجارية ـ المالية، معبرة بطريقة أو بأخرى عن رغبة عميقة في التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
من أديرة الشمال إلى مزارع الجنوب
أطلقت الأزمة الزراعية موجة من النضالات جمعت المطالبة بالأرض لمن يفلحها الى مقاومة تغلغل الرأسمالية المتزايد داخل العلاقات الزراعية. عام ,1970 نظم «شركاء» الأديرة المارونية في تنورين وميفوق (جرود البترون وجبيل) إضرابات وتظاهرات واعتصامات مطالبين بحصة أكبر من المحصول وبتوزيع أراضي الكنيسة على الفلاحين. في ميفوق تدخل الجيش ضد الفلاحين. وبعد سنة من ذلك، نشبت نزاعات حول ملكية الارض بين فلاحي حانين في الجنوب وكامل الاسعد، مالك أراضي القرية ورئيس مجلس النواب. اعتقل 23 فلاحا بتهمة العنف. وشهدت قرية القنطرة، المملوكة من آل عسيران، نزاعا مشابها في العام ذاته.
على أن الحركة الفلاحية الأهم هي انتفاضة فلاحي سهل عكار التي بدأت عام 1968 على خلفية من شروط «الشراكة» الجائرة ومن هجمة المقاولين الرأسماليين على الاستثمار في أراضي السهل. من أجل تمويل نمط حياتهم الجديد في المدن، أخذ بكوات عكار يفرضون نمطا من الاستغلال شبه إقطاعي على فلاحيهم بما فيه من احتقارات (كالهدايا الالزامية والخدمة المجانية لنساء الفلاحين في بيوت البكوات وما شابه) هذا عندما لم يبيعوا أراضيهم أو يؤجروها الى المقاولين الرأسماليين. هكذا تقهقر وضع «الشركاء» من فلاحين الى مصاف العمال الزراعين ناهيك عن طردهم من أراضيهم والمساكن (ومعظمها ملكٌ للبكوات). في وجه هذين الضغطين، انتفض الفلاحون بالسلاح، بدعم من منظمة «الصاعقة» الفلسطينية الناشئة حديثا بقرار من حزب البعث الحاكم في سوريا بقيادة صلاح جديد. بعد سقوط جديد عام ,1970 واصلت أحزاب اليسار اللبناني قيادة الحركة.
في الجنوب، تحولت «الريجي» الى مزرعة خاصة للزعماء التقليديين الذين حشوها بالأزلام والمحاسيب وتحكموا برخص الزراعة يوزعونها على أنصارهم الذين يؤجرونها بدورهم الى المزارعين. و«الريجي»، وقد جرى تمديد امتيازها الى العام ,1973 تملك ايضا الحق الحصري بتصدير التبغ اللبناني واستيراد السجائر الأجنبية وتصنيع السجائر المحلية.
لعقد من الزمن ظلت مشكلات زراعة التبغ تتراكم وتتمفصل حول المطالب الآتية:
ـ إنهاء المضاربة على رخص الزراعة بسحبها من الذين لا يمارسون الزراعة.
ـ تحديد سقف الرخصة بـ25 دونما للشخص الواحد (كان 70؟ من الفلاحين يزرعون أقل من خمسة دونمات، مع ان هناك رخصا لزراعة 400 دونم!).
ـ زيادة أسعار شراء «الريجي» لأوراق التبغ من المزارعين.
ـ تأميم شركة «الريجي»، وهو مطلب سار في الاتجاه المعاكس تماما لوزير الوصاية على الشركة، الكتائبي جوزيف شادر، الذي كان يعمل على تأجير «الريجي» لشركة «فيليب موريس» وهي من كبريات شركات السجائر الأميركية.
بعد ست سنوات من انتظار رد على مطالبهم، قامت تظاهرة شارك فيها آلاف مزارعي التبغ في 22 كانون الثاني/يناير 1973 باحتلال مباني إدارة «الريجي» في النبطية مطالبين بزيادة قدرها 20؟ على سعر منتجاتهم. في اليوم التالي، أطلق الجيش النار على المتظاهرين فأردى مزارعين. بعد ايام، سار 20 الفا في شوارع بيروت متضامنين مع مزارعي التبغ.
الى هذا، أخذ الفلاحون والمزارعون والعمال الزراعيون ينظمون الحركة صفوفهم بوتيرة سريعة في نقابات واتحادات. في نيسان/ابريل 1973 نشأ اتحاد لمزارعي التبغ. وقبله بشهر، انعقد مؤتمر «الاتحاد الوطني للعمال الزراعيين» الذي ضم مندوبين عن 163 قرية من كل أنحاء البلاد. وفي ايار/مايو من العام نفسه شن المؤتمر الأول لفلاحي ومزارعي البقاع حملة ضد ارتفاع أسعار الأدوية والأسمدة الزراعية (التي تشكل 20ـ30؟ من أكلاف الإنتاج) وطالب بقانون جديد لإيجار الأراضي وهاجم شبكة الوسطاء والسماسرة التي تسهم في ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية وطالبوا بانضمام العمال الزراعيين الى صندوق الضمان الاجتماعي.
وحدة نقابية وقواعد نضالية
جمعت النضالات من أجل تطبيق الضمان الاجتماعي العمال والمستخدمين حول برنامج مشترك، تقوده حركة نقابية موحدة لأول مرة منذ الاستقلال في «الاتحاد العام لعمال لبنان» يحظى داخله الاتحاد اليساري، «الاتحاد الوطني للنقابات العمالية»، والنقابيون الإصلاحيون، بنفوذ متزايد. وقد نجح الاتحاد العمالي العام في أن يكتّل شرائح واسعة من العاملين وذوي الدخل المحدود في المدن والأرياف حول برنامج يستوعب مطالب العمال الزراعيين من جهة ويعبئ ذوي الدخل المحدود وجميع المتضررين من ارتفاع أكلاف المعيشة من جهة اخرى.
هدد الاتحاد العمالي العام بإضراب مفتوح في شباط/فبراير 1970 فأجبر السلطات على تفعيل الفرع الصحي من الضمان الاجتماعي الذي يفترض أن يفيد منه نحو 250 الف عامل ومستخدم. على ان الهجوم المضاد الذي شنّه أرباب العمل ألزم الحكومة بأن تودع أموال الضمان الاجتماعي في المصارف الخاصة بفائدة منخفضة تتراوح بين 3 و4 ؟ فيما الفائدة المتداولة تتراوح بين 8 و10؟. والأخطر من ذلك هو حملة الصرف الواسعة النطاق التي شنّها أرباب العمل ضد قدامى العمال والمستخدمين، أي الذي قضوا في الخدمة أكثر من سنتين فيفيدون حكما من تقديمات الضمان، لعدم دفع اشتراكات الضمان عنهم. أثارت حملة الصرف التعسفي تلك مسألة استقرار العمل والحق في التنظيم والنشاط النقابيين، فتوجهت الأنظار الى ضرورة تعديل المادة 50 من قانون العمل.
بناء عليه، عاد الاتحاد العمالي الى التهديد بإضراب عام جديد في 25 ايار/مايو 1971 مطالبا بوقف حملة الصرف الكيفي وزيادة الأجور بنسبة 22؟ وخفض الايجارات بنسبة 25؟ واستيراد الدولة المباشر للأدوية والمواد الغذائية الرئيسية وسن التشريع الخاص بالعمال الزراعيين في مهلة لا تتجاوز الستة أشهر. أجّلت قيادة الاتحاد تنفيد الإضراب بعد أن وافقت الحكومة على زيادة الأجور بنسبة 5؟. وعندما حزم الاتحاد العمالي أمره وأعلن إضرابه أخيرا في 28 آب/اغسطس ,1973 أضاف الى مطالبه الآنفة الذكر، مطالب الحد من الأرباح التجارية والتشجيع على إنشاء التعاونيات. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تتجرأ فيها الحركة النقابية على المسّ بالسلطة المستترة وشبه المقدسة للاوليغارشية التجارية ـ المالية. جاء جواب الحكومة تقليديا: أقرّت زيادة جديدة على الأجور بنسبة 5؟ ايضا (في حين أبان مؤشر كلفة المعيشة ان ارتفاع كلفة المعيشة لا يقل عن 12؟) ورفعت الحد الادنى للاجر الى 225 ل.ل. والتعويض العائلي الى 70 ل.ل. وجرى التوصل الى تسوية بشأن المادة 50 تقضي بوضع قيود على فصل النقابيين من العمل. ولكن لم تجرِ تلبية أي من المطالب الاخرى.
على صعيد آخر، كانت سلسلة متواصلة من الإضرابات والتحركات القاعدية تهز العالم الصناعي من العام .1968 ذلك ان التصنيع المتسارع واستخدامه العمال اليدويين الشباب ذوي الأصول الريفية الذين يجري تحويلهم الى عمال صناعيين بسرعة ووحشية قد رفع من وعيهم الطبقي واستعداداتهم النضالية. شملت مطالبهم كل أوجه الحياة العمالية: تطبيق قانون العمل بالنسبة لدوام العمل من 8 ساعات، التعويض العائلي، إجازات المرض والأمومة، الحق في التنظيم النقابي والاعتراف باللجان العمالية في المعامل، وقف الصرف الكيفي، شمول العمال الزراعيين في الضمان، بما في ذلك فرعه النقابي، وتحسين شروط العمل في المعامل ذاتها، بما في ذلك شروط السلامة والتعويض عن حوادث العمل ووقف التحرش الجنسي الذي تتعرض له العاملات.
ومن أبرز التحركات العمالية القاعدية إضراب عمال معامل غندور للحلويات البالغ عددهم 1200 عامل وعاملة في معمل الشياح وهم أكبر كتلة من عمال الصناعة غير منضوية في نقابة. أعلن العمال إضرابهم في تشرين الثاني/نوفمبر 1972 مطالبين بزيادة الأجور والمساواة في الأجر بين العاملات والعمال والاعتراف بلجنة المعمل وفي الحق في التنظيم النقابي. خلال تظاهرة لهم في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عند باب العمل، أطلقت الشرطة النار عليهم فسقط يوسف العطار، عضو «اللجان العمالية» المرتبطة بمنظمة العمل الشيوعي، وفاطمة الخواجه، عضو الحزب الشيوعي اللبناني وجرح 14 آخرين. نظم الاتحاد العمالي العام يوم إضراب عام لاستنكار العنف الرسمي والتضامن مع عمال غندور فيما عمّت موجة من الغضب أنحاء البلاد. أما حكومة صائب سلام، التي رفضت التحقيق في ظروف إطلاق الشرطة النار على تظاهرة سلمية، فقد أصرّت على استحصال الأحزاب اليسارية والقومية على إذن مسبق من وزارة الداخلية لتظاهرة الاحتجاج التي كانوا يعدّون لها. حصلت التظاهرة وانتهت الى تجمع عارم في ساحة البرلمان خطب فيه كمال جنبلاط فيما المتظاهرون يهتفون «99 لص و17 حرامي!» (على عدد نواب المجلس وأعضاء الحكومة). وفي 15 كانون الاول/ديسمبر، أعلن أصحاب معمل غندور إقفال معملهم وصرف جميع العمال ثم فتحه بعد أسبوع وأعاد توظيف العمال باستثناء 100 عاملة وعامل اعتبروا قادة الإضراب والمحرضين عليه. ومع أن اليسار نظم تظاهرة جديدة يوم 25 كانون الاول/ديسمبر إلا ان حصيلة معركة غندور لم تخلف غير المرارة والغضب. علّق الملحق العمالي في السفارة الأميركية على الحدث قائلا ان التظاهرة والإضراب العام كانا بمثابة «نجاح متواضع» لصالح اليسار، الذي نجح في الانتقال الى الهجوم وربح «الحرب الدعاوية». إلا انه خلص الى القول ان لا اليسار ولا الحركة النقابية حقق أي إنجاز ملموس للعمال في نهاية المطاف.
بالفعل، كانت الحركة النقابية تدور في حلقة مفرغة: عند كل زيادة على الأجور، التي يدفعها أرباب العمل الصناعيون والدولة بنوع خاص، يعمد التجار الى حصاد الفائض النقدي في السوق برفع أسعار بضائعهم. وهكذا فالحصيلة الشحيحة لسنوات من النضال النقابي غير المثمر، دفعت بالاحتجاج الشعبي الى الشارع. فعندما أعلن الاتحاد العمالي العام تأجيل إضراب عام كان قد هدد باللجوء اليه، اندلعت موجة من الإضرابات المعملية غير المرخصة والتظاهرات الشعبية العنيفة في أنحاء البلاد كافة، في بيروت وصيدا وصور وبنت جبيل في الجنوب وفي البقاع وطرابلس (حيث أحرق المتظاهرون مكاتب «اتحاد نقابات الشمال» الموالي للحكومة) كما المناطق ذات الغالبية المسيحية في جونيه وجبيل وحمانا، ناهيك عن المناطق المختلطة في الشوف وعاليه والشويفات والجيّه. في اليوم التالي أعلن إضراب غير مرخص نظمته «اللجان العمالية» المرتبطة بمنظمة العمل الشيوعي أقفل معامل منطقة المكلّس ـ تل الزعتر الصناعية بعمالها العشرة آلاف الذين أقدموا على قطع طريق بيروت ـ بيت مري طوال ساعات. علّق رينيه عاجوري، محرر «الصفا» اليومية الصادرة بالفرنسية قائلا: «لا يمكن الاكتفاء باختزال هذا الإضراب غير المرخص بمطالبه فقط... انه يضع موضع تساؤل القادة السياسيين في المجتمع اللبناني والاهم من ذلك انه يضع موضع تساؤل قادته النقابيين».
من أديرة الشمال إلى مزارع الجنوب
أطلقت الأزمة الزراعية موجة من النضالات جمعت المطالبة بالأرض لمن يفلحها الى مقاومة تغلغل الرأسمالية المتزايد داخل العلاقات الزراعية. عام ,1970 نظم «شركاء» الأديرة المارونية في تنورين وميفوق (جرود البترون وجبيل) إضرابات وتظاهرات واعتصامات مطالبين بحصة أكبر من المحصول وبتوزيع أراضي الكنيسة على الفلاحين. في ميفوق تدخل الجيش ضد الفلاحين. وبعد سنة من ذلك، نشبت نزاعات حول ملكية الارض بين فلاحي حانين في الجنوب وكامل الاسعد، مالك أراضي القرية ورئيس مجلس النواب. اعتقل 23 فلاحا بتهمة العنف. وشهدت قرية القنطرة، المملوكة من آل عسيران، نزاعا مشابها في العام ذاته.
على أن الحركة الفلاحية الأهم هي انتفاضة فلاحي سهل عكار التي بدأت عام 1968 على خلفية من شروط «الشراكة» الجائرة ومن هجمة المقاولين الرأسماليين على الاستثمار في أراضي السهل. من أجل تمويل نمط حياتهم الجديد في المدن، أخذ بكوات عكار يفرضون نمطا من الاستغلال شبه إقطاعي على فلاحيهم بما فيه من احتقارات (كالهدايا الالزامية والخدمة المجانية لنساء الفلاحين في بيوت البكوات وما شابه) هذا عندما لم يبيعوا أراضيهم أو يؤجروها الى المقاولين الرأسماليين. هكذا تقهقر وضع «الشركاء» من فلاحين الى مصاف العمال الزراعين ناهيك عن طردهم من أراضيهم والمساكن (ومعظمها ملكٌ للبكوات). في وجه هذين الضغطين، انتفض الفلاحون بالسلاح، بدعم من منظمة «الصاعقة» الفلسطينية الناشئة حديثا بقرار من حزب البعث الحاكم في سوريا بقيادة صلاح جديد. بعد سقوط جديد عام ,1970 واصلت أحزاب اليسار اللبناني قيادة الحركة.
في الجنوب، تحولت «الريجي» الى مزرعة خاصة للزعماء التقليديين الذين حشوها بالأزلام والمحاسيب وتحكموا برخص الزراعة يوزعونها على أنصارهم الذين يؤجرونها بدورهم الى المزارعين. و«الريجي»، وقد جرى تمديد امتيازها الى العام ,1973 تملك ايضا الحق الحصري بتصدير التبغ اللبناني واستيراد السجائر الأجنبية وتصنيع السجائر المحلية.
لعقد من الزمن ظلت مشكلات زراعة التبغ تتراكم وتتمفصل حول المطالب الآتية:
ـ إنهاء المضاربة على رخص الزراعة بسحبها من الذين لا يمارسون الزراعة.
ـ تحديد سقف الرخصة بـ25 دونما للشخص الواحد (كان 70؟ من الفلاحين يزرعون أقل من خمسة دونمات، مع ان هناك رخصا لزراعة 400 دونم!).
ـ زيادة أسعار شراء «الريجي» لأوراق التبغ من المزارعين.
ـ تأميم شركة «الريجي»، وهو مطلب سار في الاتجاه المعاكس تماما لوزير الوصاية على الشركة، الكتائبي جوزيف شادر، الذي كان يعمل على تأجير «الريجي» لشركة «فيليب موريس» وهي من كبريات شركات السجائر الأميركية.
بعد ست سنوات من انتظار رد على مطالبهم، قامت تظاهرة شارك فيها آلاف مزارعي التبغ في 22 كانون الثاني/يناير 1973 باحتلال مباني إدارة «الريجي» في النبطية مطالبين بزيادة قدرها 20؟ على سعر منتجاتهم. في اليوم التالي، أطلق الجيش النار على المتظاهرين فأردى مزارعين. بعد ايام، سار 20 الفا في شوارع بيروت متضامنين مع مزارعي التبغ.
الى هذا، أخذ الفلاحون والمزارعون والعمال الزراعيون ينظمون الحركة صفوفهم بوتيرة سريعة في نقابات واتحادات. في نيسان/ابريل 1973 نشأ اتحاد لمزارعي التبغ. وقبله بشهر، انعقد مؤتمر «الاتحاد الوطني للعمال الزراعيين» الذي ضم مندوبين عن 163 قرية من كل أنحاء البلاد. وفي ايار/مايو من العام نفسه شن المؤتمر الأول لفلاحي ومزارعي البقاع حملة ضد ارتفاع أسعار الأدوية والأسمدة الزراعية (التي تشكل 20ـ30؟ من أكلاف الإنتاج) وطالب بقانون جديد لإيجار الأراضي وهاجم شبكة الوسطاء والسماسرة التي تسهم في ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية وطالبوا بانضمام العمال الزراعيين الى صندوق الضمان الاجتماعي.
وحدة نقابية وقواعد نضالية
جمعت النضالات من أجل تطبيق الضمان الاجتماعي العمال والمستخدمين حول برنامج مشترك، تقوده حركة نقابية موحدة لأول مرة منذ الاستقلال في «الاتحاد العام لعمال لبنان» يحظى داخله الاتحاد اليساري، «الاتحاد الوطني للنقابات العمالية»، والنقابيون الإصلاحيون، بنفوذ متزايد. وقد نجح الاتحاد العمالي العام في أن يكتّل شرائح واسعة من العاملين وذوي الدخل المحدود في المدن والأرياف حول برنامج يستوعب مطالب العمال الزراعيين من جهة ويعبئ ذوي الدخل المحدود وجميع المتضررين من ارتفاع أكلاف المعيشة من جهة اخرى.
هدد الاتحاد العمالي العام بإضراب مفتوح في شباط/فبراير 1970 فأجبر السلطات على تفعيل الفرع الصحي من الضمان الاجتماعي الذي يفترض أن يفيد منه نحو 250 الف عامل ومستخدم. على ان الهجوم المضاد الذي شنّه أرباب العمل ألزم الحكومة بأن تودع أموال الضمان الاجتماعي في المصارف الخاصة بفائدة منخفضة تتراوح بين 3 و4 ؟ فيما الفائدة المتداولة تتراوح بين 8 و10؟. والأخطر من ذلك هو حملة الصرف الواسعة النطاق التي شنّها أرباب العمل ضد قدامى العمال والمستخدمين، أي الذي قضوا في الخدمة أكثر من سنتين فيفيدون حكما من تقديمات الضمان، لعدم دفع اشتراكات الضمان عنهم. أثارت حملة الصرف التعسفي تلك مسألة استقرار العمل والحق في التنظيم والنشاط النقابيين، فتوجهت الأنظار الى ضرورة تعديل المادة 50 من قانون العمل.
بناء عليه، عاد الاتحاد العمالي الى التهديد بإضراب عام جديد في 25 ايار/مايو 1971 مطالبا بوقف حملة الصرف الكيفي وزيادة الأجور بنسبة 22؟ وخفض الايجارات بنسبة 25؟ واستيراد الدولة المباشر للأدوية والمواد الغذائية الرئيسية وسن التشريع الخاص بالعمال الزراعيين في مهلة لا تتجاوز الستة أشهر. أجّلت قيادة الاتحاد تنفيد الإضراب بعد أن وافقت الحكومة على زيادة الأجور بنسبة 5؟. وعندما حزم الاتحاد العمالي أمره وأعلن إضرابه أخيرا في 28 آب/اغسطس ,1973 أضاف الى مطالبه الآنفة الذكر، مطالب الحد من الأرباح التجارية والتشجيع على إنشاء التعاونيات. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تتجرأ فيها الحركة النقابية على المسّ بالسلطة المستترة وشبه المقدسة للاوليغارشية التجارية ـ المالية. جاء جواب الحكومة تقليديا: أقرّت زيادة جديدة على الأجور بنسبة 5؟ ايضا (في حين أبان مؤشر كلفة المعيشة ان ارتفاع كلفة المعيشة لا يقل عن 12؟) ورفعت الحد الادنى للاجر الى 225 ل.ل. والتعويض العائلي الى 70 ل.ل. وجرى التوصل الى تسوية بشأن المادة 50 تقضي بوضع قيود على فصل النقابيين من العمل. ولكن لم تجرِ تلبية أي من المطالب الاخرى.
على صعيد آخر، كانت سلسلة متواصلة من الإضرابات والتحركات القاعدية تهز العالم الصناعي من العام .1968 ذلك ان التصنيع المتسارع واستخدامه العمال اليدويين الشباب ذوي الأصول الريفية الذين يجري تحويلهم الى عمال صناعيين بسرعة ووحشية قد رفع من وعيهم الطبقي واستعداداتهم النضالية. شملت مطالبهم كل أوجه الحياة العمالية: تطبيق قانون العمل بالنسبة لدوام العمل من 8 ساعات، التعويض العائلي، إجازات المرض والأمومة، الحق في التنظيم النقابي والاعتراف باللجان العمالية في المعامل، وقف الصرف الكيفي، شمول العمال الزراعيين في الضمان، بما في ذلك فرعه النقابي، وتحسين شروط العمل في المعامل ذاتها، بما في ذلك شروط السلامة والتعويض عن حوادث العمل ووقف التحرش الجنسي الذي تتعرض له العاملات.
ومن أبرز التحركات العمالية القاعدية إضراب عمال معامل غندور للحلويات البالغ عددهم 1200 عامل وعاملة في معمل الشياح وهم أكبر كتلة من عمال الصناعة غير منضوية في نقابة. أعلن العمال إضرابهم في تشرين الثاني/نوفمبر 1972 مطالبين بزيادة الأجور والمساواة في الأجر بين العاملات والعمال والاعتراف بلجنة المعمل وفي الحق في التنظيم النقابي. خلال تظاهرة لهم في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عند باب العمل، أطلقت الشرطة النار عليهم فسقط يوسف العطار، عضو «اللجان العمالية» المرتبطة بمنظمة العمل الشيوعي، وفاطمة الخواجه، عضو الحزب الشيوعي اللبناني وجرح 14 آخرين. نظم الاتحاد العمالي العام يوم إضراب عام لاستنكار العنف الرسمي والتضامن مع عمال غندور فيما عمّت موجة من الغضب أنحاء البلاد. أما حكومة صائب سلام، التي رفضت التحقيق في ظروف إطلاق الشرطة النار على تظاهرة سلمية، فقد أصرّت على استحصال الأحزاب اليسارية والقومية على إذن مسبق من وزارة الداخلية لتظاهرة الاحتجاج التي كانوا يعدّون لها. حصلت التظاهرة وانتهت الى تجمع عارم في ساحة البرلمان خطب فيه كمال جنبلاط فيما المتظاهرون يهتفون «99 لص و17 حرامي!» (على عدد نواب المجلس وأعضاء الحكومة). وفي 15 كانون الاول/ديسمبر، أعلن أصحاب معمل غندور إقفال معملهم وصرف جميع العمال ثم فتحه بعد أسبوع وأعاد توظيف العمال باستثناء 100 عاملة وعامل اعتبروا قادة الإضراب والمحرضين عليه. ومع أن اليسار نظم تظاهرة جديدة يوم 25 كانون الاول/ديسمبر إلا ان حصيلة معركة غندور لم تخلف غير المرارة والغضب. علّق الملحق العمالي في السفارة الأميركية على الحدث قائلا ان التظاهرة والإضراب العام كانا بمثابة «نجاح متواضع» لصالح اليسار، الذي نجح في الانتقال الى الهجوم وربح «الحرب الدعاوية». إلا انه خلص الى القول ان لا اليسار ولا الحركة النقابية حقق أي إنجاز ملموس للعمال في نهاية المطاف.
بالفعل، كانت الحركة النقابية تدور في حلقة مفرغة: عند كل زيادة على الأجور، التي يدفعها أرباب العمل الصناعيون والدولة بنوع خاص، يعمد التجار الى حصاد الفائض النقدي في السوق برفع أسعار بضائعهم. وهكذا فالحصيلة الشحيحة لسنوات من النضال النقابي غير المثمر، دفعت بالاحتجاج الشعبي الى الشارع. فعندما أعلن الاتحاد العمالي العام تأجيل إضراب عام كان قد هدد باللجوء اليه، اندلعت موجة من الإضرابات المعملية غير المرخصة والتظاهرات الشعبية العنيفة في أنحاء البلاد كافة، في بيروت وصيدا وصور وبنت جبيل في الجنوب وفي البقاع وطرابلس (حيث أحرق المتظاهرون مكاتب «اتحاد نقابات الشمال» الموالي للحكومة) كما المناطق ذات الغالبية المسيحية في جونيه وجبيل وحمانا، ناهيك عن المناطق المختلطة في الشوف وعاليه والشويفات والجيّه. في اليوم التالي أعلن إضراب غير مرخص نظمته «اللجان العمالية» المرتبطة بمنظمة العمل الشيوعي أقفل معامل منطقة المكلّس ـ تل الزعتر الصناعية بعمالها العشرة آلاف الذين أقدموا على قطع طريق بيروت ـ بيت مري طوال ساعات. علّق رينيه عاجوري، محرر «الصفا» اليومية الصادرة بالفرنسية قائلا: «لا يمكن الاكتفاء باختزال هذا الإضراب غير المرخص بمطالبه فقط... انه يضع موضع تساؤل القادة السياسيين في المجتمع اللبناني والاهم من ذلك انه يضع موضع تساؤل قادته النقابيين».