انقسامات وانزلاقات
في السبعينيات، كان المجتمع اللبناني أشبه بمن يمشي على حبل معلّق في فراغ، يتأرجح بين مسعى لإعادة بناء وحدته من خلال الاصلاحات البنيوية وبين انقسام يشق ابناءه حول هاجس «الامن». وإذ توحدت البرجوازية لصد أي محاولة للاصلاح، مهّد الاحتقان والانقسام في الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة والطبقات الفقيرة للانزلاق نحو الاقتتال الاهلي.
حقيقة الامر ان كمال جنبلاط وحلفاءه اليساريين والقوميين من جهة وحزب الكتائب وحلفاءه من جهة اخرى، كانوا يتنازعون على روايتين متناقضين لمسألة الامن. عارض حزب الكتائب اي نوع من أنواع الاصلاح، وهو المعروف بأنه نصير دولة قوية ترتكز الى الجيش تدعمه الميليشيات اليمينية عند الحاجة، مؤكدا بذلك وظيفته في الدفاع عن الامتيازات الطوائفية الصغيرة الموضوعة في خدمة المصالح الطبقية الكبرى. اما جنبلاط، الذي نال الاعتراف العربي به شخصية مسلمة قائدة في لبنان، والمستقوي بدعم سوري ومصري، فقد كان مدركاً تمام الإدراك ان الوجود الفلسطيني المسلّح قد كسر «احتكار العنف» الذي كان يتمتع به المسيحيون، فاقترح ضفقة شاملة: اصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية تحقق المزيد من التوازن الطائفي في مقابل تحديد تفاوضي ودّي لنشاطات منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق التطبيق الحرفي لـ«اتفاق القاهرة». وما ثورة جنبلاط، ووضعه موضع التساؤل النظام السياسي والاجتماعي اللبناني برمّته، ومغامرته شبه الانتحارية في عام 1975ـ,1976 إلا نتاج عجزه عن إقناع الفريق الحاكم بهذا الخيار.
التجديد والاحتجاج في المؤسسات الدينية
في تلك الأثناء، نشأت وترعرعت حركتان عبّرتا خير تعبير عن وقع الحركات الاجتماعية في الأوساط المسيحية وعن درجة الاحتقان السائدة في أوساط المسلمين.
بمناسبة عيد الميلاد عام ,1968 أصدرت «حركة الشبيبة المسيحية» بياناً يدين ثروة الكنيسة وقوتها السياسية اللتين تساهمان في نظام الاستغلال الاقطاعي والرأسمالي السائد في لبنان، كما أدان دور الكنيسة في تبرير هذا النظام. ودعا البيان الكنيسة والمسيحيين الى ان يحسبوا أنفسهم جزءاً عضوياً من العالم العربي فيشاركونه مشكلاته ونضالاته وتطلعاته الى التحرر والى بناء مجتمع متطور لجميع ابنائه. وختم البيان بإعلان تضامن الشبيبة المسيحية مع نضال الشعب الفلسطيني مناشداً المؤمنين الالتزام بـ«التغيير الجذري للمجتمع اللبناني».
هذا صوت من بين أصوات لمنظمات عديدة سعت ناشطة للتجديد داخل الكنيسة المارونية. منها طلاب في الكلية الكهنوتية في غزير، وأعضاء «مجمع يسوع الملك» وكهنة الابرشيات في الضواحي المسيحية الشعبية في الجديدة والدكوانة. يضاف اليهم الكهنة ـ العمال المتأثرون بلاهوت التحرير في اميركا اللاتينية الذين نشطوا في المتن وضواحي بيروت في حقل العمل الاجتماعي ومحو الامية. وفي عام ,1974 نشأ «تجمع المسيحيين الملتزمين»، القريب من الشيوعيين والحركة الوطنية حاملا راية عروبة ديموقراطية علمانية. من جهتها، مثلت «حركة الشبيبة الارثوذكسية»، بقيادة المطران جورج خضر، محاولة لإحياء مسيحية شرقية منفتحة على الحوار مع الاسلام. وفي مطلع 1974 ايضاً، تكوّنت حركة للتجديد الروحي بأفق مستقل حول غريغوار حداد، مطران بيروت للروم الكاثوليك، ومجلة «آفاق» التي انتقد حداد على صفحاتها «النظام الاجتماعي الاستغلالي» في لبنان، داعيا الى الالتزام الجاد بـ«قضية الانسان العربي» مطالبا بتغيير يجعل المجتمع اللبناني أوفر عدلا وحضارة وأكثر ثراء في القيم الانسانية. أثار المطران حداد عاصفة من ردود الفعل في اوساط الكنيسة. فأنقذته شعبيته من الحرم الكنسي الا انه عزل عن كرسي مطرانية بيروت. وكان المطران حداد قد دعا الى الغاء الزواح الديني، الذي يشجّع على الطائفية، والعمل من اجل تحقيق العلمانية. في الاسابيع الاولى من الحرب، كتب حداد ان الفروقات الاجتماعية الكبيرة هي المسؤولة عن الازمة التي ادت الى اندلاع العنف ودعا الى حل يقوم على العدالة الاجتماعية يؤمّن العمل والغذاء والسكن والرعاية الصحية للجميع. وبدلا من التهرّب من مسألة الامن، قلب المطران حداد معادلتها، مؤكدا ان التغيير ليس هو الخطر الذي يتهدد الامن، بل هي الظروف السائدة التي تشكل اكبر خطر على امن لبنان واستقراره.
لم تطل إقامة الإمام موسى الصدر في لبنان. لكنها سوف تطبع حياة لبنان، والشيعة خصوصاً، لحقبة كاملة من التاريخ. ولد الصدر في ايران لدى واحدة من الاسر الإيرانية الدينية، وانتقل الى لبنان مطلع الستينيات حاملا اموالاً وفيرة لافتتاح مشاريع اجتماعية لمصلحة ابناء الطائفة. استقر اول الامر في صور حيث حاول ملء الفراغ الديني الذي تركته وفاة المجتهد الاكبر للطائفة الشيعية آنذاك، السيد عبد الحسين شرف الدين وكذلك ملء الفراغ السياسي الذي تركته وفاة محمد الزيّات، عضو حركة القوميين العرب، والقائد الشعبي المواجه لزعامة آل الخليل. حاول الصدر، الذي دعا الى إسلام منفتح ومتنور، بناء قوة ثالثة بين زعامة الأسعد التقليدية في الجنوب وبين أحزاب اليسار المتمثلة في الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث، التي كانت تتمتع بشعبية واسعة في اوساط الجمهور الجنوبي، والشباب خصوصاً. في مسعاه الاول ضد آل الاسعد، نجح الصدر في كسب تأييد صبري حماده، الزعيم الشيعي في منطقة بعلبك الهرمل. اما مسعاه الثاني، فلفت نظر السفارة الاميركية في بيروت التي وصفته في احد تقاريرها على انه سدّ ضد نفوذ عبد الناصر بين الجمهور الشيعي. وفي العام ,1974 اعترف الصدر للسفير الاميركي غودلي بأن شاغله الاساسي هو مجابهة النفوذ الشيوعي بين الشباب الشيعي.
لم يعر رجال الدين الشيعة موسى الصدر كبير اهتمام أول الأمر، وهم المعادون تقليدياً للحكومة المركزية والزعماء التقليديين والموالون للمرجعية الشيعية في النجف. غير ان الصدر أثار اهتمام الرئيس شارل حلو و«الأجهزة» الشهابية وميشال اسمر، مؤسس «الندوة اللبنانية»، مصنع الأفكار اللبنانوية في صيغتها المارونية. وهؤلاء جميعاً يبحثون عن حليف مسلم ضد الزعامة السنّية و«الشارع» السنّي وقد انحازا أكثر مما يحتمل ـ برأيهم ـ الى عبد الناصر والفدائيين الفلسطينيين. بمبادرة من الصدر، استكمل الشيعة تحولهم الى مؤسسة طائفية. فالقانون رقم 72/76 الصادر يوم 19 كانون الاول/ديسمبر ,1967 اعترف بحق ممثلي الطائفة الشيعية في العمل والتعبير وفاقاً للفتاوى الصادرة من مرجعية الطائفة في العالم (المادة 1) ويمنح «المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى» حق «الدفاع عن حقوق الطائفة» وتحسين احوالها الاجتماعية والاقتصادية (المادة 5). ليست الاشارة الى المرجعية الدينية الواقعة خارج الحدود اللبنانية بالامر الجديد في حقوق الطوائف اللبنانية، الا ان منح «المجلس الشيعي» حق الدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان بمثابة السابقة. بعد سنتين من ذلك، تأسس «المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى» وانتخب الإمام موسى الصدر رئيساً له. وفي ايار/مايو ,1970 على اثر يوم تضامن رسمي مع الجنوب اللبناني، اعترفت الحكومة بالهيئة الشيعية الجديدة وقررت صرف عشرة ملايين دولار مساعدة للجنوب.
خلال فترة نهوض الحركة المطلبية والاجتماعية، كان خطاب موسى الصدر الشعبوي يشدد على الجوانب الطائفية والمناطقية. أما رسالته حمالة الأوجه عن حقوق المحرومين، فكانت تستدعي عدداً من القطاعات الاجتماعية: أغنياء الشيعة في بلاد الاغتراب الافريقية المتطلعين الى مكان لهم في النظام السياسي اللبناني والى مقام اجتماعي يليق بثرواتهم المستجدّة؛ وقطاع واسع من المثقفين والموظفين الشيعة يبحثون إما عن الوظيفة الإدارية وإما عن الترقية في إدارة لا تزال منحازة لمصلحة زملائهم ونظرائهم الموارنة والسنّة؛ وقطاع من أهالي الجنوب لم ينحز لا الى الزعماء التقليديين ولا الى اليسار، وقد عبّأت الاجهزة الشهابية العديد منهم في تنظيم «أنصار الجيش». لم يفت فؤاد عجمي، المثقف الأميركي ذي الأصل الشيعي اللبناني، ان يلاحظ هذه الشعبوية الطامحة الى صهر فئات اجتماعية متنافرة في بوتقة الطائفة، فامتدح مشروع موسى الصدر بما هو «المشروع الطائفي المحدد للبنان» الكفيل بـ«سحق الفوارق الطبقية».
شدد الصدر على الحاجة إلى تنمية الجنوب قبل ان تندلع الثورة فيه. عليه، طالب بتخصيص حصة من الموازنة لتلك المنطقة، وتوسيع مشروع الليطاني لري الاراضي الجنوبية وبناء المستشفيات والمدارس. على ان موسى الصدر لم يجد أي تناقض بين الوجود الفلسطيني المسلّح وبين السيادة اللبنانية، معتبراً أن لبنان ليس مسؤولاً عن حماية حدود إسرائيل. لاحقا، اقترح الصدر تمركز قوة عسكرية عربية لحماية الجنوب وإنشاء صندوق عربي لتنميته. هذا وقد لعبت حركة فتح، بقيادة ياسر عرفات، الباحثة عن حلفاء خارج حدود اليسار، دوراً هاماً في دعم الإمام وفي تأسيس «حركة المحرومين» عام 1974 وتدريب عناصرها وتسليحهم.
في السبعينيات، كان المجتمع اللبناني أشبه بمن يمشي على حبل معلّق في فراغ، يتأرجح بين مسعى لإعادة بناء وحدته من خلال الاصلاحات البنيوية وبين انقسام يشق ابناءه حول هاجس «الامن». وإذ توحدت البرجوازية لصد أي محاولة للاصلاح، مهّد الاحتقان والانقسام في الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة والطبقات الفقيرة للانزلاق نحو الاقتتال الاهلي.
حقيقة الامر ان كمال جنبلاط وحلفاءه اليساريين والقوميين من جهة وحزب الكتائب وحلفاءه من جهة اخرى، كانوا يتنازعون على روايتين متناقضين لمسألة الامن. عارض حزب الكتائب اي نوع من أنواع الاصلاح، وهو المعروف بأنه نصير دولة قوية ترتكز الى الجيش تدعمه الميليشيات اليمينية عند الحاجة، مؤكدا بذلك وظيفته في الدفاع عن الامتيازات الطوائفية الصغيرة الموضوعة في خدمة المصالح الطبقية الكبرى. اما جنبلاط، الذي نال الاعتراف العربي به شخصية مسلمة قائدة في لبنان، والمستقوي بدعم سوري ومصري، فقد كان مدركاً تمام الإدراك ان الوجود الفلسطيني المسلّح قد كسر «احتكار العنف» الذي كان يتمتع به المسيحيون، فاقترح ضفقة شاملة: اصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية تحقق المزيد من التوازن الطائفي في مقابل تحديد تفاوضي ودّي لنشاطات منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق التطبيق الحرفي لـ«اتفاق القاهرة». وما ثورة جنبلاط، ووضعه موضع التساؤل النظام السياسي والاجتماعي اللبناني برمّته، ومغامرته شبه الانتحارية في عام 1975ـ,1976 إلا نتاج عجزه عن إقناع الفريق الحاكم بهذا الخيار.
التجديد والاحتجاج في المؤسسات الدينية
في تلك الأثناء، نشأت وترعرعت حركتان عبّرتا خير تعبير عن وقع الحركات الاجتماعية في الأوساط المسيحية وعن درجة الاحتقان السائدة في أوساط المسلمين.
بمناسبة عيد الميلاد عام ,1968 أصدرت «حركة الشبيبة المسيحية» بياناً يدين ثروة الكنيسة وقوتها السياسية اللتين تساهمان في نظام الاستغلال الاقطاعي والرأسمالي السائد في لبنان، كما أدان دور الكنيسة في تبرير هذا النظام. ودعا البيان الكنيسة والمسيحيين الى ان يحسبوا أنفسهم جزءاً عضوياً من العالم العربي فيشاركونه مشكلاته ونضالاته وتطلعاته الى التحرر والى بناء مجتمع متطور لجميع ابنائه. وختم البيان بإعلان تضامن الشبيبة المسيحية مع نضال الشعب الفلسطيني مناشداً المؤمنين الالتزام بـ«التغيير الجذري للمجتمع اللبناني».
هذا صوت من بين أصوات لمنظمات عديدة سعت ناشطة للتجديد داخل الكنيسة المارونية. منها طلاب في الكلية الكهنوتية في غزير، وأعضاء «مجمع يسوع الملك» وكهنة الابرشيات في الضواحي المسيحية الشعبية في الجديدة والدكوانة. يضاف اليهم الكهنة ـ العمال المتأثرون بلاهوت التحرير في اميركا اللاتينية الذين نشطوا في المتن وضواحي بيروت في حقل العمل الاجتماعي ومحو الامية. وفي عام ,1974 نشأ «تجمع المسيحيين الملتزمين»، القريب من الشيوعيين والحركة الوطنية حاملا راية عروبة ديموقراطية علمانية. من جهتها، مثلت «حركة الشبيبة الارثوذكسية»، بقيادة المطران جورج خضر، محاولة لإحياء مسيحية شرقية منفتحة على الحوار مع الاسلام. وفي مطلع 1974 ايضاً، تكوّنت حركة للتجديد الروحي بأفق مستقل حول غريغوار حداد، مطران بيروت للروم الكاثوليك، ومجلة «آفاق» التي انتقد حداد على صفحاتها «النظام الاجتماعي الاستغلالي» في لبنان، داعيا الى الالتزام الجاد بـ«قضية الانسان العربي» مطالبا بتغيير يجعل المجتمع اللبناني أوفر عدلا وحضارة وأكثر ثراء في القيم الانسانية. أثار المطران حداد عاصفة من ردود الفعل في اوساط الكنيسة. فأنقذته شعبيته من الحرم الكنسي الا انه عزل عن كرسي مطرانية بيروت. وكان المطران حداد قد دعا الى الغاء الزواح الديني، الذي يشجّع على الطائفية، والعمل من اجل تحقيق العلمانية. في الاسابيع الاولى من الحرب، كتب حداد ان الفروقات الاجتماعية الكبيرة هي المسؤولة عن الازمة التي ادت الى اندلاع العنف ودعا الى حل يقوم على العدالة الاجتماعية يؤمّن العمل والغذاء والسكن والرعاية الصحية للجميع. وبدلا من التهرّب من مسألة الامن، قلب المطران حداد معادلتها، مؤكدا ان التغيير ليس هو الخطر الذي يتهدد الامن، بل هي الظروف السائدة التي تشكل اكبر خطر على امن لبنان واستقراره.
لم تطل إقامة الإمام موسى الصدر في لبنان. لكنها سوف تطبع حياة لبنان، والشيعة خصوصاً، لحقبة كاملة من التاريخ. ولد الصدر في ايران لدى واحدة من الاسر الإيرانية الدينية، وانتقل الى لبنان مطلع الستينيات حاملا اموالاً وفيرة لافتتاح مشاريع اجتماعية لمصلحة ابناء الطائفة. استقر اول الامر في صور حيث حاول ملء الفراغ الديني الذي تركته وفاة المجتهد الاكبر للطائفة الشيعية آنذاك، السيد عبد الحسين شرف الدين وكذلك ملء الفراغ السياسي الذي تركته وفاة محمد الزيّات، عضو حركة القوميين العرب، والقائد الشعبي المواجه لزعامة آل الخليل. حاول الصدر، الذي دعا الى إسلام منفتح ومتنور، بناء قوة ثالثة بين زعامة الأسعد التقليدية في الجنوب وبين أحزاب اليسار المتمثلة في الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث، التي كانت تتمتع بشعبية واسعة في اوساط الجمهور الجنوبي، والشباب خصوصاً. في مسعاه الاول ضد آل الاسعد، نجح الصدر في كسب تأييد صبري حماده، الزعيم الشيعي في منطقة بعلبك الهرمل. اما مسعاه الثاني، فلفت نظر السفارة الاميركية في بيروت التي وصفته في احد تقاريرها على انه سدّ ضد نفوذ عبد الناصر بين الجمهور الشيعي. وفي العام ,1974 اعترف الصدر للسفير الاميركي غودلي بأن شاغله الاساسي هو مجابهة النفوذ الشيوعي بين الشباب الشيعي.
لم يعر رجال الدين الشيعة موسى الصدر كبير اهتمام أول الأمر، وهم المعادون تقليدياً للحكومة المركزية والزعماء التقليديين والموالون للمرجعية الشيعية في النجف. غير ان الصدر أثار اهتمام الرئيس شارل حلو و«الأجهزة» الشهابية وميشال اسمر، مؤسس «الندوة اللبنانية»، مصنع الأفكار اللبنانوية في صيغتها المارونية. وهؤلاء جميعاً يبحثون عن حليف مسلم ضد الزعامة السنّية و«الشارع» السنّي وقد انحازا أكثر مما يحتمل ـ برأيهم ـ الى عبد الناصر والفدائيين الفلسطينيين. بمبادرة من الصدر، استكمل الشيعة تحولهم الى مؤسسة طائفية. فالقانون رقم 72/76 الصادر يوم 19 كانون الاول/ديسمبر ,1967 اعترف بحق ممثلي الطائفة الشيعية في العمل والتعبير وفاقاً للفتاوى الصادرة من مرجعية الطائفة في العالم (المادة 1) ويمنح «المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى» حق «الدفاع عن حقوق الطائفة» وتحسين احوالها الاجتماعية والاقتصادية (المادة 5). ليست الاشارة الى المرجعية الدينية الواقعة خارج الحدود اللبنانية بالامر الجديد في حقوق الطوائف اللبنانية، الا ان منح «المجلس الشيعي» حق الدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان بمثابة السابقة. بعد سنتين من ذلك، تأسس «المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى» وانتخب الإمام موسى الصدر رئيساً له. وفي ايار/مايو ,1970 على اثر يوم تضامن رسمي مع الجنوب اللبناني، اعترفت الحكومة بالهيئة الشيعية الجديدة وقررت صرف عشرة ملايين دولار مساعدة للجنوب.
خلال فترة نهوض الحركة المطلبية والاجتماعية، كان خطاب موسى الصدر الشعبوي يشدد على الجوانب الطائفية والمناطقية. أما رسالته حمالة الأوجه عن حقوق المحرومين، فكانت تستدعي عدداً من القطاعات الاجتماعية: أغنياء الشيعة في بلاد الاغتراب الافريقية المتطلعين الى مكان لهم في النظام السياسي اللبناني والى مقام اجتماعي يليق بثرواتهم المستجدّة؛ وقطاع واسع من المثقفين والموظفين الشيعة يبحثون إما عن الوظيفة الإدارية وإما عن الترقية في إدارة لا تزال منحازة لمصلحة زملائهم ونظرائهم الموارنة والسنّة؛ وقطاع من أهالي الجنوب لم ينحز لا الى الزعماء التقليديين ولا الى اليسار، وقد عبّأت الاجهزة الشهابية العديد منهم في تنظيم «أنصار الجيش». لم يفت فؤاد عجمي، المثقف الأميركي ذي الأصل الشيعي اللبناني، ان يلاحظ هذه الشعبوية الطامحة الى صهر فئات اجتماعية متنافرة في بوتقة الطائفة، فامتدح مشروع موسى الصدر بما هو «المشروع الطائفي المحدد للبنان» الكفيل بـ«سحق الفوارق الطبقية».
شدد الصدر على الحاجة إلى تنمية الجنوب قبل ان تندلع الثورة فيه. عليه، طالب بتخصيص حصة من الموازنة لتلك المنطقة، وتوسيع مشروع الليطاني لري الاراضي الجنوبية وبناء المستشفيات والمدارس. على ان موسى الصدر لم يجد أي تناقض بين الوجود الفلسطيني المسلّح وبين السيادة اللبنانية، معتبراً أن لبنان ليس مسؤولاً عن حماية حدود إسرائيل. لاحقا، اقترح الصدر تمركز قوة عسكرية عربية لحماية الجنوب وإنشاء صندوق عربي لتنميته. هذا وقد لعبت حركة فتح، بقيادة ياسر عرفات، الباحثة عن حلفاء خارج حدود اليسار، دوراً هاماً في دعم الإمام وفي تأسيس «حركة المحرومين» عام 1974 وتدريب عناصرها وتسليحهم.