ثانياً: نقد الوقائع والحقائق
يطلق على عملية (التحليل) المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع والحقائق اسم (النقد). وهي عملية ضرورية لجميع الوثائق مهما كان نوعها، يقوم بها الباحث التاريخي بعملية فكرية تراجعية، نقطة الانطلاق فيها الوثيقة، ونقطة الهدف الواقعة التاريخية، وبينهما سلسلة من الاستدلالات تكون فيها فرص الخطأ عديدة.
إن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة، تتراوح بين شهادات الأشخاص الذين حضروا الحوادث أو
الذين سمعوا أو كتبوا عنها، وبين الآثار والسجلات والوثائق التي تركوها، وحيث أن هذه الوثائق معرضة للتلف والتزوير بسبب قدمها، كما أن كتابها معرضون للنسيان أو التزوير، لهذا تطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى، وهل كتبت مباشرة بعد الحادثة أم بعد مرور فترة زمنية، هل كان صاحبها في صحة جسمية ونفسية سليمتين، هل توفرت له حرية الكتابة حينما كتب، أم أنها كتبت بتأثير من سلطة أو وجهة نظر ما، كما أن كثيراً من المسلمات التي كانت شائعة اكتشف الباحثون أنها ليست صحيحة.
إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق، يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها والأسباب التي تدعوا إلى التحريف والتشويه والخطأ المتعمد فيها وغير المتعمد.
عملية النقد المصادر هذه احتفظت بإطارها الأساسي التقليدي الذي حدده (لانغلوا) و(سينوبوس) (4) في عمليتين رئيسيتين:
1 ـالنقد الخارجي.
2 ـ النقد الداخلي.
وفي كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية، تتناول شخصية المؤلف أو الكاتب كما تتناول الوثيقة شكلاً
ومضموناً ، بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي (5).
يتناول الباحث في النقد الخارجي للوثيقة هوية الوثيقة وأصالة الوثيقة (Authenticity) أي صدق الوثيقة أو عدمه (إثبات صحة الأصل)، تحديد مصدر الوثيقة، زمانها ومكانها، هل هي الأصل أم منسوخة عنه، هل كتبت بخط صاحبها أم بخط شخص آخر، هل كتبت بلغة العصر الذي كتبت فيه أم تتحدث بمفاهيم ولغة مختلفين، وهل المواد التي كتبت عليها كانت مستعملة في زمن كتابتها، هل تتحدث عن أشياء كانت غير معروفة في ذلك العصر، وهل يطابق مظهرها مخبرها، هل في نصها إضافة أو حك أو تغيير؟
و البحث عن هوية المؤلف، وهل كان شاهداً مباشراً للحوادث، أم لا؟
والبحث عن موارد الأصل، هل تحمل اسم صاحبها أو تحمل اسماً مستعاراً؟
ويتحقق الباحث من ذلك بمقارنة الوثيقة من حيث الأسلوب والخط بأعمال أخرى للمؤلف
والفترة الزمنية التي كتبت فيها الوثيقة، وهل هناك أحداث وردت في الوثيقة
وأماكن لم يعرفها شخص عاش في عصر كتابة الوثيقة، وإذا كان المؤلف مجهولاً
وكانت الوثيقة غير مؤرخة فهل في مضمون الوثيقة ما يكشف عنهما؟
بعد أن يتم التأكد من زمان ومكان الوثيقة وتحقيق شخصية الباحث فإن النقد الداخلي أوالباطني يسير نحو تحقيق عمله لتقويم الوثيقة، معنى المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها، هل كتبت بناء على ملاحظة شخصية مباشرة أم نقلاً عن رواة، ويسير ذلك وفق خطوتين:
الأولى هي «النقد الداخلي الإيجابي» والهدف منه تفسير الأصل التاريخي، وإدراك معناه الحقيقي، ويمر ذلك بدورين: الأول تفسير ظاهرة النص وتحديد المعنى الحرفي له،
والثاني إدراك المعنى الحقيقي للنص أي هدف المؤلف مما كتبه.
أما «النقد الداخلي السلبي» فيتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل وإخلاصه، ومدى الموضوعية فيها، ويعني هذا تحليل شخصية المؤلف وظروفه، ومدى صحة ما أورد من حوادث، أي إثبات الحقائق التاريخية، ويرتبط ذلك ارتباطاً كبيراً بتقويمها، أي بمدى فهمها وشرحها، ويتعلق ذلك بشخصية الباحث
التاريخي وخياله المبدع وثقافته الواسعة وقوة الملاحظة ومقدماته، وكل هذا يوضح
لنا التعقيد الشديد للتحليل أو النقد التاريخي، إلا أنه يبين لنا في الوقت نفسه الضرورة المطلقة له.
هذا ولابد أن تتوافر لدى الباحث معارف تاريخية عامة وخاصة كافية، وحس تاريخي وذكاء وإدراك عميق ومعرفة بالسلوك البشري، ومعرفة أيضاً بالعلوم المساعدة من مثل فقه اللغة والكيمياء وعلم الأقوام وعلم الخرائط وعلم النقود وعلم النفس، والإلمام بالفنون والأدب، ومعرفة الخطوط واللغات القديمة منها والحديثة، مما يتطلب تدريباً للباحث، رغم إمكانية الاستعانة بالمتخصصين في كثير من هذه الأمور.
ويمكن الرجوع في بحث هذه المعايير إلى ما كتبه الغزالي (ت 505هـ / 1111م) في كتابه (المستصفى من علم
الأصول) وما دونه ابن الصلاح (ت 641هـ / 1243م) في كتابه (مقدمة في علم
الحديث) للاطلاع على عدالة الراوي، وقد طرح المؤرخ (سينوبوس) جملة من الأمثلة
توضح أسباب الخطأ فيما يقدمه مؤلف النص من الواقع، وربما أخذ جزءاً كبيراً
منها مما طرحه ابن خلدون في مقدمته عن (أسباب الكذب في الخبر) (6).
وقد أورد (فان دالين) مبادئ عامة للنقد نورد فيما يلي أهمها:
1 ـ لا تقرأ في الوثائق القديمة مفاهيم أزمنة متأخرة.
2 ـ لا تحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثاً معينة لأنه غفل عن ذكرها.
3 ـ لا تقلل من قيمة المصدر ولا تبالغ في قيمته.
4 ـ لا تكتفي بمصدر واحد حول حقيقة واحدة.
5 ـ الأخطاء المتماثلة في مصدرين أو أكثر تثبت نقلها بعضها عن بعض.
6 ـ إذا ناقض الشهود بعضهم بعضاً في واقعة فقد يكون أحدهم صادقاً، وقد يكونون مخطئين جميعاً.
7 ـالنقاط التي يتفق عليها شهود كثر أكفاء مباشرون تعتبر مقبولة.
8 ـ قد تعطي وثيقة ما دليلاً كافياً في نقطة معينة ولا تعطي مثل هذا الدليل في نقطة أخرى.
9 ـ الشهادات الرسمية شفوية أو كتابية، يجب تأييدها ما أمكن بأخرى غير رسمية (7).
يطلق على عملية (التحليل) المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع والحقائق اسم (النقد). وهي عملية ضرورية لجميع الوثائق مهما كان نوعها، يقوم بها الباحث التاريخي بعملية فكرية تراجعية، نقطة الانطلاق فيها الوثيقة، ونقطة الهدف الواقعة التاريخية، وبينهما سلسلة من الاستدلالات تكون فيها فرص الخطأ عديدة.
إن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة، تتراوح بين شهادات الأشخاص الذين حضروا الحوادث أو
الذين سمعوا أو كتبوا عنها، وبين الآثار والسجلات والوثائق التي تركوها، وحيث أن هذه الوثائق معرضة للتلف والتزوير بسبب قدمها، كما أن كتابها معرضون للنسيان أو التزوير، لهذا تطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى، وهل كتبت مباشرة بعد الحادثة أم بعد مرور فترة زمنية، هل كان صاحبها في صحة جسمية ونفسية سليمتين، هل توفرت له حرية الكتابة حينما كتب، أم أنها كتبت بتأثير من سلطة أو وجهة نظر ما، كما أن كثيراً من المسلمات التي كانت شائعة اكتشف الباحثون أنها ليست صحيحة.
إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق، يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها والأسباب التي تدعوا إلى التحريف والتشويه والخطأ المتعمد فيها وغير المتعمد.
عملية النقد المصادر هذه احتفظت بإطارها الأساسي التقليدي الذي حدده (لانغلوا) و(سينوبوس) (4) في عمليتين رئيسيتين:
1 ـالنقد الخارجي.
2 ـ النقد الداخلي.
وفي كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية، تتناول شخصية المؤلف أو الكاتب كما تتناول الوثيقة شكلاً
ومضموناً ، بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي (5).
يتناول الباحث في النقد الخارجي للوثيقة هوية الوثيقة وأصالة الوثيقة (Authenticity) أي صدق الوثيقة أو عدمه (إثبات صحة الأصل)، تحديد مصدر الوثيقة، زمانها ومكانها، هل هي الأصل أم منسوخة عنه، هل كتبت بخط صاحبها أم بخط شخص آخر، هل كتبت بلغة العصر الذي كتبت فيه أم تتحدث بمفاهيم ولغة مختلفين، وهل المواد التي كتبت عليها كانت مستعملة في زمن كتابتها، هل تتحدث عن أشياء كانت غير معروفة في ذلك العصر، وهل يطابق مظهرها مخبرها، هل في نصها إضافة أو حك أو تغيير؟
و البحث عن هوية المؤلف، وهل كان شاهداً مباشراً للحوادث، أم لا؟
والبحث عن موارد الأصل، هل تحمل اسم صاحبها أو تحمل اسماً مستعاراً؟
ويتحقق الباحث من ذلك بمقارنة الوثيقة من حيث الأسلوب والخط بأعمال أخرى للمؤلف
والفترة الزمنية التي كتبت فيها الوثيقة، وهل هناك أحداث وردت في الوثيقة
وأماكن لم يعرفها شخص عاش في عصر كتابة الوثيقة، وإذا كان المؤلف مجهولاً
وكانت الوثيقة غير مؤرخة فهل في مضمون الوثيقة ما يكشف عنهما؟
بعد أن يتم التأكد من زمان ومكان الوثيقة وتحقيق شخصية الباحث فإن النقد الداخلي أوالباطني يسير نحو تحقيق عمله لتقويم الوثيقة، معنى المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها، هل كتبت بناء على ملاحظة شخصية مباشرة أم نقلاً عن رواة، ويسير ذلك وفق خطوتين:
الأولى هي «النقد الداخلي الإيجابي» والهدف منه تفسير الأصل التاريخي، وإدراك معناه الحقيقي، ويمر ذلك بدورين: الأول تفسير ظاهرة النص وتحديد المعنى الحرفي له،
والثاني إدراك المعنى الحقيقي للنص أي هدف المؤلف مما كتبه.
أما «النقد الداخلي السلبي» فيتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل وإخلاصه، ومدى الموضوعية فيها، ويعني هذا تحليل شخصية المؤلف وظروفه، ومدى صحة ما أورد من حوادث، أي إثبات الحقائق التاريخية، ويرتبط ذلك ارتباطاً كبيراً بتقويمها، أي بمدى فهمها وشرحها، ويتعلق ذلك بشخصية الباحث
التاريخي وخياله المبدع وثقافته الواسعة وقوة الملاحظة ومقدماته، وكل هذا يوضح
لنا التعقيد الشديد للتحليل أو النقد التاريخي، إلا أنه يبين لنا في الوقت نفسه الضرورة المطلقة له.
هذا ولابد أن تتوافر لدى الباحث معارف تاريخية عامة وخاصة كافية، وحس تاريخي وذكاء وإدراك عميق ومعرفة بالسلوك البشري، ومعرفة أيضاً بالعلوم المساعدة من مثل فقه اللغة والكيمياء وعلم الأقوام وعلم الخرائط وعلم النقود وعلم النفس، والإلمام بالفنون والأدب، ومعرفة الخطوط واللغات القديمة منها والحديثة، مما يتطلب تدريباً للباحث، رغم إمكانية الاستعانة بالمتخصصين في كثير من هذه الأمور.
ويمكن الرجوع في بحث هذه المعايير إلى ما كتبه الغزالي (ت 505هـ / 1111م) في كتابه (المستصفى من علم
الأصول) وما دونه ابن الصلاح (ت 641هـ / 1243م) في كتابه (مقدمة في علم
الحديث) للاطلاع على عدالة الراوي، وقد طرح المؤرخ (سينوبوس) جملة من الأمثلة
توضح أسباب الخطأ فيما يقدمه مؤلف النص من الواقع، وربما أخذ جزءاً كبيراً
منها مما طرحه ابن خلدون في مقدمته عن (أسباب الكذب في الخبر) (6).
وقد أورد (فان دالين) مبادئ عامة للنقد نورد فيما يلي أهمها:
1 ـ لا تقرأ في الوثائق القديمة مفاهيم أزمنة متأخرة.
2 ـ لا تحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثاً معينة لأنه غفل عن ذكرها.
3 ـ لا تقلل من قيمة المصدر ولا تبالغ في قيمته.
4 ـ لا تكتفي بمصدر واحد حول حقيقة واحدة.
5 ـ الأخطاء المتماثلة في مصدرين أو أكثر تثبت نقلها بعضها عن بعض.
6 ـ إذا ناقض الشهود بعضهم بعضاً في واقعة فقد يكون أحدهم صادقاً، وقد يكونون مخطئين جميعاً.
7 ـالنقاط التي يتفق عليها شهود كثر أكفاء مباشرون تعتبر مقبولة.
8 ـ قد تعطي وثيقة ما دليلاً كافياً في نقطة معينة ولا تعطي مثل هذا الدليل في نقطة أخرى.
9 ـ الشهادات الرسمية شفوية أو كتابية، يجب تأييدها ما أمكن بأخرى غير رسمية (7).